خطوط مصر الحمراء… حين تتكلم الدولة بلغة الوجود

خطوط مصر الحمراء… حين تتكلم الدولة بلغة الوجود

خطوط مصر الحمراء… حين تتكلم الدولة بلغة الوجود

بقلم د.عبدالعاطى المناعي

الجيش المصري حين يحرس التاريخ… والرئيس حين يقرأ المستقبل

لم تكن مصر يومًا دولة ردّات فعل، ولا كيانًا يتشكل على هامش الجغرافيا أو تحت ضغط اللحظة. فهذه الدولة التي صهرتها الحضارة آلاف السنين، تعرف جيدًا متى تصمت، ومتى تتكلم، ومتى ترفع يدها لا للبطش بل للتحذير
ليس خافيا أن الجيش المصري، أقدم جيوش الأرض، الذي
لم يكن يومًا أداة حرب فقط، بل كان دائمًا عقل الدولة وسياجها الأخير، الحارس الصامت لحدود الوطن ومعناه. ومن خلفه تقف قيادة سياسية حكيمة تدرك أن الأمن القومي لا يُدار بالشعارات، بل بالميزان الدقيق بين القوة والحكمة
لكن في الوقت المناسب
في هذا السياق، جاءت “الخطوط الحمراء” التي أعلنها الرئيس عبد الفتاح السيسي في ملفات إقليمية شديدة التعقيد، لا بوصفها تهديدًا، بل كإعلان واضح عن ثوابت لا تقبل المساومة، ورسالة بأن مصر تعرف حدودها… لكنها تعرف أيضًا كيف تدافع عنها
أولًا: خط مياه النيل… حين تصبح المياه «قضية وجود»
يُعد نهر النيل شريان الحياة المصرية منذ فجر التاريخ، ولم يكن يومًا مجرد مورد مائي، بل ركيزة وجود حضاري وديموغرافي واقتصادي. من هنا جاء الموقف المصري ثابتًا وحاسمًا: حقوق مصر التاريخية في مياه النيل خط أحمر، لا يقبل المساس أو الانتقاص
ومع تصاعد أزمة سد النهضة وسدود أعالي النيل، كررت الدولة المصرية، على أعلى المستويات، أن أي مساس بحصة مصر المائية هو تهديد مباشر للأمن القومي، وأن صبر القاهرة في التفاوض لا يعني قبولها بالأمر الواقع
هذا الخط الأحمر ليس موقفًا ظرفيًا، بل عقيدة دولة، عبّر عنها الرئيس السيسي بوضوح حين وصف المياه بأنها “مسألة حياة أو موت”، في رسالة فهمها العالم جيدًا: مصر لا تعادي التنمية، لكنها ترفض أن تُبنى تنمية الآخرين على عطش شعبها
ثانيًا: خط ليبيا (سرت – الجفرة)… الجغرافيا حين تلامس الأمن القومي
في عام 2020، أعلن الرئيس السيسي بوضوح أن خط سرت – الجفرة هو خط أحمر لا يُسمح بتجاوزه. لم يكن الإعلان استعراضًا، بل قراءة استراتيجية عميقة لجغرافيا الخطر
ليبيا ليست دولة جوار عادية، بل عمقًا استراتيجيًا مباشرًا للأمن القومي المصري، وحدودها الغربية الممتدة تجعل أي فوضى فيها تهديدًا مباشرًا لمصر. لذلك جاء ربط هذا الخط الأحمر بمنع تقدم المليشيات والقوات المدعومة من الخارج نحو الشرق الليبي
لقد نجح هذا الإعلان في إعادة رسم المشهد الليبي، وأثبت أن مصر حين تتكلم بلغة واضحة، فإنها تُحدث توازنًا لا تستطيع المليشيات تجاوزه
ثالثًا: خط غزة وسيناء… لا للتهجير ولا للمساس بالأمن المصري
في ظل تصاعد الحرب على غزة، عادت سيناريوهات التهجير القسري إلى الواجهة، ومعها محاولات المساس بمحور فيلادلفيا وترتيبات الأمن في سيناء. وهنا كان الموقف المصري قاطعًا:
تهجير الفلسطينيين خارج غزة، خاصة إلى سيناء، خط أحمر.
هذا الموقف لا ينطلق فقط من اعتبارات الأمن القومي، بل من رؤية أخلاقية وسياسية تعتبر أن تصفية القضية الفلسطينية عبر التهجير مرفوضة شكلًا وموضوعًا
سيناء ليست ساحة بديلة لأزمات الآخرين، بل أرض مصرية دُفعت من أجلها دماء غالية، وأمنها جزء لا يتجزأ من سيادة الدولة. وقد شددت القيادة المصرية على أن أي مساس بهذه المعادلة يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي، ولن يُسمح به تحت أي ذريعة
رابعًا: خطوط السودان الحمراء… حين تحمي مصر الدولة لا الأطراف
أعلنت مصر بوضوح خطوطًا حمراء في الملف السوداني، عكست فهمًا عميقًا لطبيعة الخطر الداهم على الدولة السودانية نفسها
شملت هذه الخطوط:
الحفاظ على وحدة السودان ورفض أي سيناريو للتقسيم
ورفض إنشاء جيوش أو كيانات موازية للمؤسسات الشرعية
وعدم المساس بمؤسسات الدولة الوطنية
وأعلنت مصر صراحة حقها في اتخاذ “كافة التدابير” وفق اتفاقية الدفاع المشترك، في رسالة واضحة بأن استقرار السودان ليس شأنًا داخليًا معزولًا، بل جزء من الأمن القومي المصري والعربي
هذا الموقف لا ينحاز لطرف، بل ينحاز لفكرة الدولة، لأن انهيار السودان يعني فتح أبواب الفوضى على مصراعيها في الإقليم كله
لذلك أصبح الخط الأحمر… فلسفة دولة لا نزوة سلطة
الخطوط الحمراء التي أعلنتها مصر ليست تهديدات عسكرية عابرة، بل ترجمة سياسية لفلسفة دولة تعرف وزنها وحدودها ومسؤوليتها وقدراتها
هي خطوط وُضعت لتمنع الانزلاق إلى الفوضى، وتحمي الأمن القومي دون مغامرة، وتؤكد أن مصر لا تبحث عن صدام، لكنها لا تقبل أن يُفرض عليها واقع يمس وجودها أو أمنها أو كرامتها
وحين تتكلم مصر بهذه اللغة، فإنها لا تتكلم باسم الحاضر فقط، بل باسم التاريخ… وباسم أجيال لم تولد بعد، لكنها تستحق وطنًا آمنًا يعرف أين يقف، ومتى يقول: إلى هنا… وهذا خط أحمر
وال يقرب يجرب