الهوية الإفريقية... جذور لا تموت

الهوية الإفريقية... جذور لا تموت

 
كتب دكتور / عبدالعاطي المناعي
في زمن تتبدّل فيه الملامح، وتتقاطع فيه الثقافات، وتغمرنا فيه رياح العولمة من كل صوب، تقف إفريقيا — أمُّ القارات وسيدةُ الشمس — شامخةً كالنخيل في وجه الرياح، تُذكّر أبناءها أنَّ الهوية ليست زينةً نرتديها، بل روحًا تسكننا.
لقد خُلق الإنسان الإفريقي ولا زال يعيش معظم أبناء افريقيا على بساطة الأرض وعمق السماء، فكان في وجهه ضياء الشمس، وفي قلبه صفاء النيل، وفي خطاه حكمة السنين. ومن رحم المعاناة وعرق الكفاح، نبتت حضاراتٌ أدهشت الدنيا؛ من أهرامات الجيزة إلى ممالك تمبكتو ونوبيـا وأكسوم وزنزبار، شواهد لا تزال تنطق: هنا بدأت الإنسانية، وهنا وُلد الإيمان، وهنا غنّت الأرض للحرية أول أغنياتها.وستظل تغني اغنية الخلود
غير أن الهوية الإفريقية اليوم تواجه امتحان البقاء في زمن الاندماج والذوبان. فبين مدٍّ غربيٍ يغرينا ببريقه، ولمعانه المصطنع وجذبٍ تكنولوجيٍ يسرق وجداننا، قد ننسى أنفسنا، ونضيع في الزحام إن لم نُمسك بجذورنا جيدًا. إن الهوية ليست سجنًا، بل هي جسرٌ نعبر به إلى العالم ونحن نحمل ملامحنا كما هي، دون تزييف أو تقليد.
الهوية الإفريقية لا تُختزل في لون البشرة، ولا في رقصةٍ ولا في زيٍّ تقليدي، بل هي منظومة قيمٍ تمتد من الكرم إلى الشجاعة، ومن التكافل إلى احترام الكبير.وحب الوطن والتفاني في العمل هي ذلك الإحساس الجمعي بالانتماء، الذي يجعل الإفريقيّ يمد يده لأخيه قبل أن يسأله عن اسمه أو قبيلته أو دينه.
ولعل أخطر ما يُهدّد الهوية هو أن نتحدث بلسانٍ غيرنا ونفكر بعقله. فاللغة ليست أداة تواصل فحسب، بل وعاء الذاكرة ومرآة الفكر. حين تموت لغاتنا الإفريقية تموت معها أرواح أجدادنا. لذا كان لزامًا علينا أن نُعيد الاعتبار للّغات الأم، وأن نزرعها في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام، لا كتراثٍ متحفي، بل كوسيلة تفكيرٍ وإبداع.
أما ثقافتنا، فهي النهر الذي يربط الشعوب الإفريقية من المحيط إلى البحر الأحمر. في موسيقانا دفء الأرض، وفي رقصاتنا نبض الغابة، وفي قصصنا القديمة حكمة الأجداد الذين حوّلوا الأسطورة إلى فلسفة حياة. إن الفن الإفريقي ليس ترفًا، بل هو طاقةُ بقاءٍ تحفظ للروح نكهتها.
وفي مواجهة الزحف الاستهلاكي، يجب أن نُعيد الاعتبار للبساطة التي كانت سرَّ جمالنا. فالقيم الإفريقية الأصيلة — التضامن، والوفاء، والإيثار — هي السياج الحقيقي الذي يحمي روحنا من الغربة الداخلية. الهوية لا تحيا إلا في الأخلاق، والأخلاق لا تزدهر إلا بالقدوة والتعليم الواعي والإعلام النزيه.
إن بناء مستقبلٍ إفريقي قوي لا يبدأ من مصانع الحديد، بل من مصانع الوعي. من مدرسةٍ تُعلّم الطفل أن فخره بجلده الأسود هو فخر بالسماء التي صاغت لونه، وأنه يحمل في دمه ذاكرة القارة الأم، التي أنجبت الأنبياء والمفكرين والمصلحين.
فما أجمل أن نكون عالميين بعقولنا، وإفريقيين بقلوبنا.
أيها الأفارقة،
احملوا إفريقيا في أصواتكم، في ملامحكم، في أحلامكم. لا تجعلوها مجرد خريطةٍ على جدار، بل ضميرًا حيًا في وجدانكم. دعونا نُعيد كتابة الحكاية بأيدينا، نحفرها في ذاكرة الأجيال القادمة بمداد العزة، لا بالحبر المستعار.
فإفريقيا ليست قارة فحسب، إنها روح الكون حين يبتسم، وأمّ الحضارات حين تلد المعنى من رماد الألم.
فلنحافظ عليها كما نحافظ على النفس الأخير في الصدر، لأنها ليست مجرد هوية... بل حياة.