صناعة العافية
دكتور عبدالعاطي المناعي
منذ فجر التاريخ، كان الإنسان يسافر بحثًا عن الشفاء قبل أن يسافر للترفيه. من العيون الكبريتية في واحات مصر القديمة إلى بحيرات الطين في البحر الميت، ومن حمّامات روما إلى ينابيع الهند، كانت الرحلة نحو العافية هي أولى الرحلات التي خطّها الإنسان في سجل الحضارة. واليوم، ونحن في قلب القرن الحادي والعشرين، تعود السياحة الصحية لتصبح واحدة من أكثر الصناعات العالمية نموًا وتأثيرًا في الاقتصاد الدولي، بعدما أدركت الدول والمؤسسات أن الاستثمار في الصحة ليس رفاهية، بل هو رافد ذهبي للاقتصاد الوطني، ومصدر ثراء مستدام للأمم التي تتقن الجمع بين العلم والضيافة، بين الطب والطبيعة، وبين العافية والابتكار.
لقد تغيّر مفهوم السياحة في العصر الحديث؛ فلم تعد مجرد تنقّل بين المدن والشواطئ، بل أصبحت رحلة إنسانية متكاملة تجمع بين العلاج والراحة النفسية والتجربة الثقافية والمعيشة البيئية المتوازنة. وفي خضم الأزمات الاقتصادية وتقلبات الأسواق، تبرز صناعة السياحة الصحية كما أحب أن اسميها كأحد اهم الصناعات الواعدة القليلة القادرة على الصمود والنمو، لأنها تمس حاجة أساسية لا غنى عنها: حاجة الإنسان إلى الشفاء، إلى التوازن، إلى الحياة.
فهي بكل صدق صناعة تنبض بالحياة
إن الحديث عن السياحة الصحية ليس حديثًا عن ترف فكري أو حلم خيالي، بل هو حديث عن صناعة حقيقية تمشي على الأرض، تفتح أبواب العمل والاستثمار، وتخلق فرصًا لا حصر لها أمام الأفراد والمؤسسات والدول. فهي لا تعتمد على مورد ناضب أو سلعة قابلة للتلف، بل تعتمد على العنصر البشري والطبيعة والبنية الطبية والسياحية، أي على موارد قابلة للتجدد وقيم مضافة تزداد مع التطوير والمعرفة.
ولأنها تقوم على التفاعل بين الطب والاقتصاد والبيئة والمجتمع، فإنها تحمل في جوهرها طاقة عظيمة للتنمية المستدامة. فكل مستشفى مجهز أو مركز استشفاء أو منتجع طبيعي أو واحة علاجية هو في ذاته مشروع اقتصادي متكامل، تتقاطع فيه العلوم الطبية مع إدارة الخدمات، والضيافة مع التسويق، والاقتصاد مع الأخلاق الإنسانية.
فهي رافد اقتصادي لا ينضب
وتُظهر الإحصاءات الدولية أن حجم الإنفاق العالمي على السياحة الصحية يتجاوز مئات المليارات من الدولارات سنويًا، وأن معدل نموها يفوق نمو السياحة التقليدية بثلاثة أضعاف. وهذه الأرقام ليست مجرد مؤشرات مالية، بل هي شواهد على تحوّل عميق في وعي الإنسان الحديث الذي بات يبحث عن السفر الذي يمنحه الصحة قبل المتعة، وعن التجربة التي تمنحه طول العمر قبل التقاط الصورة
وفي ضوء هذا الواقع، تصبح السياحة الصحية سلاحًا اقتصاديًا ناعمًا، تملك الدول من خلاله القدرة على جذب الاستثمارات، وتنشيط قطاعات الطيران والفنادق والخدمات اللوجستية، وتوفير فرص العمل للأطباء والمعالجين والعاملين في القطاع السياحي. إنها اقتصاد شامل يتوزع عائده على شرائح المجتمع كافة، من الطبيب إلى المزارع الذي يزرع الأعشاب الطبية، ومن المهندس الذي يصمم المنتجعات إلى الحرفي الذي يبدع الهدايا السياحية.
فرص بلا حدود:
 قلت ولا زلت اكرر 
لا مستحيل
لقد أثبتت التجارب الدولية أن الدول التي امتلكت رؤية واضحة للسياحة الصحية استطاعت أن تحجز لنفسها موقعًا مميزًا في الاقتصاد العالمي. فالهند أصبحت قبلة لجراحة القلب وزراعة الأعضاء، وتركيا تحوّلت إلى مركز إقليمي للعمليات التجميلية وزراعة الشعر، وتونس والمغرب والأردن برزت كوجهات استشفاء بيئي بفضل طبيعتها العلاجية ومياهها المعدنية الدافئة. هذه الدول لم تمتلك أكثر مما تمتلكه غيرها من إمكانيات، لكنها امتلكت الإرادة والرؤية والتخطيط، فصنعت من مواردها سياحة مستدامة واقتصادًا مزدهرًا.
ومن هنا أكرر: لا مستحيل للاستثمار في السياحة الصحية. هذه الكلمة ليست شعارًا، بل حقيقة واقعية: فكل مورد طبيعي أو بشري أو طبي يمكن أن يتحول إلى فرصة اقتصادية جديدة تُستغل أفضل استغلال، وتفتح آفاقًا واسعة للنمو والازدهار. إن السياحة الصحية تتيح لكل دولة ومستثمر أن يستثمر ما لديه من موارد وإمكانات، وأن يحوّل الرؤية إلى واقع ملموس، وأن يجعل من العافية جسراً متيناً نحو الاقتصاد المتين.
البنية التحتية متوفرة... والإرادة هي الأساس
ما يميز هذه الصناعة أنها لا تحتاج إلى أن تُبنى من الصفر؛ بل تتكئ على ما هو قائم. فالمستشفيات، والمراكز الطبية، والمناطق الطبيعية، والينابيع، والسواحل، والمناخات المعتدلة، كلها تمثل لبنات جاهزة يمكن أن تُجمع في منظومة متكاملة. فبدلًا من أن تعمل كل جهة بمعزل عن الأخرى، يمكن للدولة أن تنسج منها خريطة للسياحة الصحية تُبرز خصائصها المحلية وتوظفها في خدمة الزائر والمواطن معًا.
ومن هنا تأتي أهمية تسلّيط الضوء على السياحة الصحية ليس فقط من حيث العائد المالي، بل من حيث أثرها في تحقيق التوازن بين التنمية والصحة، وبين البيئة والإنسان، وبين العلم والروح. وهي دعوة إلى التفكير المنهجي في كيفية تحويل ما نملكه من إمكانيات إلى ثروة اقتصادية متنامية، وكيف نجعل من «الاستشفاء» بابًا من أبواب الاستثمار، ومن «الصحة» محركًا للنمو، ومن «العافية» وسيلة لتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية.
نحو اقتصاد العافية
لقد دخل العالم عصر «اقتصاد العافية» (Wellness Economy) حيث أصبحت الصحة النفسية والجسدية ركيزة للنمو الشامل. والسياحة الصحية هي القلب النابض لهذا الاقتصاد الجديد. إنها توحّد بين هدفين نبيلين: تحسين جودة حياة الإنسان وتحسين جودة اقتصاد الأوطان. إنها لغة يفهمها الجميع لغة الإنسان حين يطلب الشفاء، ولغة المستثمر حين يبحث عن العائد، ولغة الدولة حين تسعى للاستقرار والتنمية.
، حاولت عبر سنوات طوال ولا زلت احاول وسأظل إلقاء الضوء علي السياحة الصحية ووضعها في ميزان الاقتصاد، نزن فرصها وتحدياتها، مواردها ومردودها، واسلط الضوء على أقسامها الثلاثة:
السياحة العلاجية، حيث يسافر المرضى طلبًا للعلاج الطبي المتخصص.
سياحة الاستشفاء البيئي، حيث تتداخل الطبيعة مع الطب في واحات ومناطق علاجية فريدة.
السياحة الصحية الميسّرة، التي تفتح أبواب العافية أمام كبار السن وذوي الهمم ومن يسعون إلى حياة صحية متوازنة.
تمنيت أن يكون الاستثمار في صحة الإنسان رافدًا قويًا من روافد الاقتصاد، وركيزة أساسية للتنمية المستدامة.
 بكل أمانة ادعوا المهتمين وأصحاب القرار في كل مكان إلى استشراف الفرص، وإدراك القوة الاقتصادية الكامنة في صناعة العافية، والإيمان بأن الاستثمار في الصحة هو الاستثمار في المستقبل، وأن العناية بالإنسان طريق لتحقيق ازدهار الاقتصاد والمجتمع.